العربية أم الدارجة: نحو أفق مختلف في الحوار والرؤية
إن المسألة التي أثارت الرأي العام حول مسألة إدراج كلمات من الدارجة المغربية في برامج تدريس اللغة العربية ينبغي أن يبقى النقاش فيها في مستوى راق بين الفرقاء من المتخصصين في الشأن التربوي والتعليمي والثقافي المغربي، وهو شأن يتسع ليشمل المتخصصين في علوم التربية وفي علوم اللغة بكل مجالاتها العلمية والمعرفية خصوصا في الشق المعياري كما العصبي منه، بالإضافة إلى إسهامات علم النفس وعلم الاجتماع بفروعهما المتصلة بالنمو وباللغة والتربية. كما يشمل الأمر أيضا ذوي التجربة من المربين والمدرسين بمختلف الأسلاك خصوصا الطور التمهيدي والابتدائي والمتلقين أو المتمدرسين باختلاف انتماءاتهم الاجتماعية. لكن للأسف الشديد فما حدث هو عكس هذا تماما، إذ النقاش والحوار الذي دار بين المنتصرين لكلا الطرحين (إدراج الدارجة من عدمها) بقي نقاشا إيديولوجيا بالمعنى السلبي الذي يعمق جراح المدرسة المغربية، ويسيء إلى صورتها في الداخل والخارج. فبدل جعلها وسيلة لبناء شخصية إنسانية منفتحة ومتزنة من جهة، والعمل على الحد من الوظيفة الإيديولوجية السلبية، والدفع بهذه المدرسة نحو الخط الذي ينتصر للمعرفة بمنطق العقل والعلم والبرهان وبناء مجتمع يساهم في تشييد الصرح الحضاري الإنساني ويحفظ للإنسان المغربي تميزه الثقافي المتنوع الضارب في القدم، وبعيد عن منطق الذوبان أو التجهيل من جهة أخرى. فإن المؤسسات التعليمية لدينا تستمر في إعطاء صور نمطية عن تاريخ المغرب، ومنه مثلا غرس انطباع بكون تاريخ الدولة المغربية بدأ بعد دخول الإسلام للمغرب الأقصى، واختزال هذا التاريخ فيما هو سياسي…
آراء أخرى
إن هذا الصراع المعلن بين التيارين خصوصا في وسائل الإعلام والاتصال المختلفة من جهة أولى كطرف بارز وفاعل في الساحة السياسية، واستقراء آراء ومواقف باحثين وكتاب ومثقفين مغاربة أمثال العروي، أوريد، الجابري، جسوس، عصيد، وغيرهم من جهة ثانية كطرف ثان يشمل اختلافات شكلية ومنهجية أحيانا في اعتماد لغة الدارجة من عدمها أو الاستعانة بها في عملية التلقين والتدريس وكذا اختلافات في المضمون قد تحذو للانتصار لأحد التيارين المتناقضين بشكل مباشر أو غير مباشر لاعتبارات مختلفة (الدارجة ليست لغة معيارية/ أو هي لغة المغاربة، اللغة العربية لغة خالصة ومقدسة، أرقى …)، كما يمكن وصف رؤية البعض منهم بكونها عقلانية وواقعية إلى حد كبير، فيما وجدت فئة أخرى ضمن هذا الطرف الثالث في ذات المسألة التي أثارت ردود فعل كثيرة فرصة للدفاع عن طروحات الخصوصية المغربية البعيدة عما هو متصل بالثقافة العربية المشرقية (الإسلاموية)، وهنا أشير مباشرة إلى جزء من الحركة الثقافية الأمازيغية، فبدا في تفاعلاتها حديث عن الهوية والتاريخ وحالة انفصام الشخصية (السكيزوفرينيا) وحالة من التماهي التي تطبع الشخصية المغربية بشكل غير واع أحيانا، ومقصود أحيانا أخرى في علاقتها بالمكون الأمازيغي، ويمكن أن نضيف طرفا رابعا يتمثل في عامة الشعب خصوصا آباء وأولياء الأطفال (التلاميذ) ذوي آراء متحمسة واندفاعية أغلبها رافضة لإدراج كلمات من الدارجة بكتب اللغة العربية، لكنها ورغم ذلك تنطوي على الكثير من التساؤلات الواقعية من قبيل من هو في حاجة لتعلم كلمات من الدراجة المغربية؟ في إشارات مباشرة إلى أقلية محظوظة داخل المجتمع ينهل أبناؤها من برامج تعليمية خارجية في علاقة اغترابية مع ثقافة المغرب المتنوعة. كما أن هذه الآراء ذاتها لفئة عريضة من عامة المجتمع تعبر في نفس الوقت عن حالة من الدونية والاستهجان الشاذ الذي يتمثل به المغربي جزء مهم من تراثه وهويته الذي هو نتاج التمازج الاجتماعي والثقافي بين العرب والأمازيغ خصوصا خلال القرن الثاني عشر الميلادي قبل أن يغتني هذا التمازج بثقافات أخرى لشمال حوض البحر الأبيض المتوسط حسب العديد من المصادر التاريخية، وهو تمثل يؤكد حالة من الاضطراب في شخصية الإنسان المغربي الذي لعبت فيه المدرسة والإعلام الرسمي دورا محوريا. فالباحث في تاريخ وتراث المجتمعات يمكن له أن يستغرب حقا من الهجومات والسخرية التي تتعرض لها الدارجة في ارتباط بالنقاش من إدراجها في برامج الأطوار التعليمية الأولى للسلك الابتدائي. كما سيندهش كذلك من خلال ما تتعرض له لغات أخرى كالفرنسية مثلا حيث ورد مثلا على لسان أحد المدافعين عن طرح استبعاد الدارجة بشكل مطلق، (العدد تسعون/ quatre vingt dix [ربعة دالعشرينات وعشرة …] كما ادعى، ولم يستشهد بلغات أخرى مثل الانجليزية ninety، وكلها مقارنات ديماغوجية لا تزيد هذه الثقافة اللغوية التي تعايش بها المغاربة إلا تبخيسا وازدراء دون أسباب موضوعية ومبررات علمية أو لغوية مقنعة وواضحة، أو ربطها بسياق تاريخي ساهم في تقوية حضورها، لتبقى تلك الدفوعات الفارغة تزيد الأمر التباسا، بل أكثر من ذلك تسير به في اتجاه استبعاد فضيلة الحوار بين الفرقاء نتيجة سببين أولاهما الوعي المزيف (الاستيلاب والتماهي مع ما هو غربي أو شرقي)، وثانيهما عدم التشبع بقيم العقلانية والحقوق الثقافية للمجتمعات والشعوب والجماعات، ويعبر هذا عن التشبع الحاصل لدى التيارين والملتفين حولهما بأفكار سمتها الانغلاق ورفض الآخر بل ورفض الذات، وهو ما يجعلنا في حاجة إلى التصالح مع ذواتنا وتقبلها كما هي. إذ لا فرق اليوم بين الأفراد وبين الشعوب والمجتمعات إلا بقيمة العمل والانجاز وسمو القيم الإنسانية التي تنتصر لها كل الثقافات ولصالح أو ضد من؟ والعكس بالعكس.
أعود إلى التيارين الذين أشرت إلى استحواذهما على نقاش إدراج الدارجة من عدمه وعسكرتهما للمجتمع في نطاق طروحاتهما، ما عدا عدد من العقول النيرة التي سبقت الإشارة إلى بعضهم والذين عبروا عن آراء واضحة ومتزنة عبر حوارات ولقاءات صحفية خافتة الحضور إعلاميا في الغالب، في حين أن البعض الآخر منهم (أي من النخبة المثقفة) فضلوا التزام الصمت أو الانعزال بعدما لاحظوا في خضم هذا النقاش والوقائع استبعادهم وتهميش دورهم الذي لا يمكن أن يؤديه طرف آخر عوضا عنهم إلا في حالة وجود اختلالات مجتمعية عميقة وسيادة طابع الشمولية بدل الديمقراطية على الأنساق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للدول. كما قد يرتبط بخشية البعض منهم من الانتقاد أوالتهجم المتوقع خاصة إذا انبنى الرأي على موقف رافض لما يذهب إليه أغلبية الناس كما تعلمنا ذلك نظرية التنافر المعرفي.
وهكذا نجد التيار الداعي لاعتماد الدارجة في برامج ومناهج تدريس اللغة العربية، يدافع عن هذا الطرح وقد تمكن من فرضه بطريقة فجائية للمشتغلين في الميدان التعليمي حيث أدمجت كلمات من الدارجة في برامج تدريس اللغة العربية للأطوار الأولى بالسلك الابتدائي، ويمثل هذا الطرح شخص لا يعي ولا يفهم ما يقوله أو ما يصرح به، من حيث افتقاده للقدرات والكفاءات اللازمة لأداء هذا الدور الذي ليست له رسالة واضحة يتذرع بها باستثناء إنقاذ المتمدرسين من الهدر الدراسي ـ وهي مبررات غير كافية خصوصا في ظل تراكم الدراسات من مؤسسات حكومية وغير حكومية تؤكد على أثر ودور عوامل أخرى غير متصلة بتغييب الدارجة أساسا، رغم إشارات هذه الدراسات إلى ضرورة تبسيط اللغة لكي تصير قريبة من واقع المتعلم واعتماد خطط ديداكتيكية مناسبة ـ وهو ما يبعث بعدم الارتياح وغياب الطمأنينة اتجاه المنتصرين لهذا الطرح وباعتبار المسألة تنطوي على مؤامرة في تكريس الجهل والأمية بين الفئات والشرائح الاجتماعية في مرحلة أولى، وإضعاف للروابط التي تجمع المجتمع المغربي بباقي المجتمعات العربية في مرحلة ثانية، على اعتبار أن اللغة العربية تعد واحدا من أقوى هذه الروابط، ويزداد هذا التوجه العام حدة في ظل سيادة أزمة الثقة بين المجتمع والدولة الذي يتضح من خلال عزوف المواطنين عن المشاركة في الحياة العامة.
أما التيار الثاني الذي نصب نفسه مدافعا عن اللغة العربية حماية لها من الدارجة التي ستفسد جماليتها ورسالتها باعتبار أن اللغة العربية لغة صافية وخالصة (لغة القرآن) ما يفيد بأنها جامدة رغم أن الواقع غير ذلك تماما، من حيث أنها أبانت على كونها لغة من بين اللغات الأخرى التي تستطيع التأقلم والتطور واستدماج كلمات ومصطلحات من ثقافات متعددة (أمازيغية، فرنسية، اسبانية،…) خصوصا في ظل التطور التقني والعلمي في البيئة الغربية المتقدمة حاليا، مقابل الركود والتأخر الذي تعيشه المجتمعات الناطقة بالعربية ما جعلها في وضعية الحاجة إلى النهل من المصطلحات المستجدة على الميدان العلمي والمعرفي عموما. وإذا كان الأمر هكذا فعلا، وهو كذلك، فما الداعي لكل هذا الازدراء الذي يتعرض له جزء مهم من المكون اللغوي الثقافي المغربي المتمثل بالدارجة التي وصفها عدد من الباحثين بأنها تتوفر هي الأخرى على مقومات لغة تؤدي وظيفة التواصل بين ملايين الأفراد في نهاية المطاف، وإن كانت الدارجة تتبدى فيها كلمات من أصول لغوية مختلفة بشكل كبير كما أشرنا إليها آنفا. ما جعل البعض يصفها بأنها لغة هجينة غير قائمة على أسس معيارية كافية كما هو الشأن لباقي اللغات الحية والمعروفة، فهو ما لا يسمح رغم ذلك بتبخيسها كلغة يومية بالنسبة لشرائح واسعة من المجتمع، بل إن الرجوع إليها في مواقف تعليمية- تعلمية بالنسبة للمدرس من أجل تبسيط المضامين الدراسية يعد أمرا لا محيد عنه بل ومحمودا كذلك. إذ تعتبر اللغة حسب الباحث الاجتماعي الأمريكي وليام لابوف W. Labov كيفما كان شكلها في رؤيته المادية للغة ووسيلة اجتماعية لعملية التواصل داخل المجتمع، ما يفيد بأن اللغة ظاهرة اجتماعية مكتسبة ظهرت مع ظهور المجتمعات.
بعد عرضنا لوجهات النظر المعبر عنها من قبل الفرقاء حول مسألة اعتماد الدارجة من عدمها، خصوصا ما تعلق بما أسميناه بالتيارين المتعارضين المتطرفين لرأيهما بشكل يغلق آفاق الحوار الذي من شأنه خدمة المنظومة التربوية، وتحسين عرضه. وقمنا خلال هذا العرض بتوضيح النواقص والعيوب الواردة في طروحات هذه التيارات خاصة، نؤكد بعد هذا حاجتنا الماسة إلى أفق مختلف أساسه تصورات جديدة واقعية وعقلانية، وأيضا وسطية ليس بمعنى حل توفيقي بين التيارين لامتصاص تطرفهما أو إرضائهما في حدود معينة، بل بما يفرضه الواقع التعليمي المتقدم في الدول المتقدمة وبما يحقق ما يصبو إليه المجتمع والفاعلين، في إطار مشروع مجتمعي أساسه وهدفه في نفس الآن جعل المنتوج التعليمي في خدمة تقدم وازدهار المجتمع بشكل يساير التحولات والتطورات الحاصلة في هذا المجال الحيوي في جميع مستوياته (الميادين المعرفية، اللغات، الإمكانيات المادية والبشرية …).
وهنا نؤكد في هذه الدعوة لبلورة تصور مختلف قوامه عدد من المنطلقات أساسها ما يلي:
· ضرورة الإشراف المباشر للدولة عبر مؤسسات مختصة لوضع واعتماد البرامج والمناهج، وإلغاء إجراءات التفويض عبر طلب عروض أو غير ذلك من السياسات التي تمس سلبا بجودة ورسالة القطاع التعليمي.
· جعل بوصلة تطوير المنظومة التعليمية والتربوية في يد المتخصصين من الباحثين والعاملين في هذا الحقل ضمن تلك المؤسسات المختصة، في جميع المراحل سواء ارتبطت بالتشخيص والإعداد والتنفيذ والتقييم وسيناريوهات التقويم والتطوير،
· الاقتناع بأن الأساليب الديداكتيكية تحتاج إلى تجديد مستمر ومتواصل،
· دراسة مدى نجاعة وجدوى الرأي القائل بإمكانية الاستعانة بلغة الدارجة خلال المراحل الأولى في التمدرس في مستوى الشرح فقط،
·اعتبار تجاوز مستوى الشرح إلى مستوى تدوين الدارجة في البرامج التعليمية في الوقت الراهن ينبؤ بنكوص واختلالات وينطوي على مخاطر كثيرة، لأن مستوى تدريس وتدوين الدارجة من المفترض أن يسبقها عمل كبير متصل بما يسمى بالتهيئة اللغوية بكل عناصرها واستحضار رهانات وحدود هذا التوجه على المستوى السياسي والاقتصادي للدولة لمعرفة مدى أهميته،
· الأخذ بعين الاعتبار الوسط الذي تنتمي إليه المؤسسة التعليمية من حيث الخصائص الاجتماعية والثقافية للمناطق التي تنتمي إليها هذه المؤسسات،
· استبعاد الأشخاص الذين لا تربطهم بالشأن التعليمي والتربوي ممارسة فعلية واحتكاك حقيقي مترجم عبر إسهامات علمية جادة أو مراكمة لخبرة معترف بها في الشأن التعليمي والتربوي،…
إن هذه المنطلقات التي يمكن أن تشكل أرضية لتعميق النقاش فيها وتطويرها، تتسم بالخلق والإبداع من جهة، وكذا طابع الليونة والصرامة التي ينبغي أن تضع حدودا معينة وواضحة للشروع في إصلاح تدريجي بهدف تجاوز الاختلالات التي أعاقت وتعيق دور قطاع التربية والتكوين باعتباره القاطرة الحقيقية لتنمية أي مجتمع.